فصل: سئل عن قوله تعالى {ومن دخله كان آمنا}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصــل

وقوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏ هو نصب على الحال، وفيه وجهان‏:‏

قيل‏:‏ هو حال من شهد أي‏:‏ شهد قائما بالقسط‏.‏

وقيل‏:‏ من ‏(‏هو‏)‏ أى‏:‏ لا إله إلا هو قائما بالقسط، كما يقال‏:‏ لا إله إلا هو وحده، وكلا المعنيين صحيح‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ يجوز أن يعمل فيه كلا العاملين على مذهب الكوفيين فى أن المعمول الواحد يعمل فيه عاملان،كما قالوا فى قوله‏:‏ ‏{‏هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏19‏]‏، و‏{‏آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏96‏]‏، و‏{‏عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏17‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ وسيبويه وأصحابه يجعلون لكل عامل معمولا، ويقولون‏:‏ حذف معمول أحدهما لدلالة الآخر عليه،وقول الكوفيين أرجح، كما قد بسطته فى غير هذا الموضع‏.‏

وعلى المذهبين فقوله‏:‏‏{‏القسط‏}‏ يخرج على هذا، إما كونه يشهد قائمًا بالقسط فإن القائم بالقسط هو القائم بالعدل، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ‏}‏‏[‏النساء‏:‏135‏]‏، فالقيام بالقسط يكون فى القول، وهو القول العدل، ويكون فى الفعل‏.‏ فإذا قيل‏:‏ شهد ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ أى‏:‏ متكلما بالعدل مخبراً به آمراً به، كان هذا تحقيقا لكون الشهادة شهادة عدل وقسط، وهى أعدل من كل شهادة، كما أن الشرك أظلم من كل ظلم، وهذه الشهادة أعظم الشهادات‏.‏

وقد ذكروا فى سبب نزول هذه الآية ما يوافق ذلك، فذكر ابن السائب ‏[‏هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبى، نسابة، راوية، عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب، له كتاب فى ‏"‏تفسير القرآن‏"‏ وهو ضعيف الحديث، ولد بالكوفة وتوفى بها سنة 146هـ‏]‏‏:‏ أن حَبْرَين من أحبار الشام قدما على النبى صلى الله عليه وسلم، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه‏:‏ ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبى الذى يخرج فى آخر الزمان‏!‏ فلما دخلا على النبى صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة، فقالا‏:‏ أنت محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قالا‏:‏ وأحمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قالا‏:‏ نسألك عن شهادة فإن أخبرتنا بها آمنا بك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏سلانى‏)‏‏.‏ فقالا‏:‏ أخبرنا عن أعظم شهادة فى كتاب اللّه فنزلت هذه الآية ‏.‏

ولفظ ‏(‏القيام بالقسط‏)‏ كما يتناول القول، يتناول العمل، فيكون التقدير‏:‏ يشهد وهو قائل بالقسط عامل به لا بالظلم؛ فإن هذه الشهادة تضمنت قولا وعملا، فإنها تضمنت أنه هو الذى يستحق العبادة وحده فيعبد، وأن غيره لا يستحق العبادة، وأن الذين عبدوه وحده هم المفلحون السعداء، وأن المشركين به في النار، فإذا شهد قائما بالعدل المتضمن جزاء المخلصين بالجنة وجزاء المشركين بالنار كان هذا من تمام تحقيق موجب هذه الشهادة، وكان قوله‏:‏ ‏{‏قّائٌمْا بٌالًقٌسًط‏}‏ تنبيها على جزاء المخلصين والمشركين، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏‏.‏

قال طائفة من المفسرين ـ منهم البغوى ـ‏:‏ نظم الآية ‏(‏شهد الله قائما بالقسط‏)‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ أى بتدبير الخلق، كما يقال‏:‏ فلان قائم بأمر فلان، أى يدبره ويتعاهد أسبابه، وقائم بحق فلان، أى مجاز له، فالله تعالى مدبر رزاق مجاز بالأعمال‏.‏

وإذا اعتبر القسط فى الإلهية كان المعنى‏:‏ ‏(‏لا إله إلا هو قائما بالقسط‏)‏، أى‏:‏ هو وحده الإله قائما بالقسط، فيكون وحده مستحقاً للعبادة مع كونه قائما بالقسط،كما يقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله إلهاً واحدا أحداً صمداً‏.‏وهذا الوجه أرجح؛ فإنه يتضمن أن الملائكة وأولى العلم يشهدون له، مع أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط‏.‏

والوجه الأول لا يدل على هذا؛ ولأن كونه قائما بالقسط ـ كما شهد به ـ أبلغ من كونه حال الشاهد، وقيامه بالقسط يتضمن أنه يقول الصدق، ويعمل بالعدل، كما قال‏:‏ ‏{‏وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏115‏]‏، وقال هود‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏56‏]‏، فأخبر أن الله على صراط مستقيم، وهو العدل الذى لا عوج فيه‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏76‏]‏، وهو مثل ضربه الله لنفسه ولما يشرك به من الأوثان، كما ذكر ذلك فى قوله‏:‏‏{‏قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏:‏35‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ‏}‏ الآيات، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏17ـ 21‏]‏، فأخبر أنه خالق منعم عالم، وما يدعون من دونه لا تخلق شيئا ولا تنعم بشىء، ولا تعلم شيئا، وأخبر أنها ميتة، فهل يستوى هذا وهذا‏؟‏ فكيف يعبدونها من دون الله مع هذا الفرق الذى لا فرق أعظم منه‏؟‏ ولهذا كان هذا أعظم الظلم والإفك‏.‏

ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏59‏]‏، فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏75، 76‏]‏، كلاهما مثل بين الله فيه أنه لا يستوى هو وما يشركون به، كما ذكر نظير ذلك فى غير موضع، وإن كان هذا الفرق معلوما بالضرورة لكل أحد، لكنْ المشركون مع اعترافهم بأن آلهتم مخلوقة مملوكة له، يسوون بينه وبينها فى المحبة والدعاء، والعبادة ونحو ذلك‏.‏

والمقصود هنا أن الرب ـ سبحانه ـ على صراط مستقيم، وذلك بمنزلة قوله‏:‏ ‏{‏قّائٌمْا بٌالًقٌسًط‏}‏، فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان مستقيما، ومن كان قوله وعمله مستقيما كان قائما بالقسط‏.‏

ولهذا أمرنا الله ـ سبحانه ـ أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان؛ ليقوم الناس بالقسط، والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه، فالمعاصى كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏

 فصــل

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏، ذكر عن جعفر بن محمد أنه قال‏:‏ الأولى وصف وتوحيد، والثانية رسم وتعليم، أى قوله‏:‏ ‏{‏لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏ ومعنى هذا أن الأولى هو ذكر أن الله شهد بها، فقال‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ‏}‏ والتالى للقرآن إنما يذكر أن الله شهد بها هو والملائكة، وأولو العلم، وليس فى ذلك شهادة من التالى نفسه بها، فذكرها الله مجردة؛ ليقولها التالي فيكون التالي قد شهد بها أنه لا إله إلا هو‏.‏ فالأولى خبر عن الله بالتوحيد لنفسه بشهادته لنفسه، وهذه خبر عن الله بالتوحيد‏.‏

وختمها بقوله‏:‏ ‏{‏الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏، والعزة تتضمن‏:‏ القدرة والشدة والامتناع والغلبة‏.‏ تقول العرب‏:‏ عز يعز ـ بفتح العين ـ إذا صَلُب، وعز يعز ـ بكسرها ـ إذا امتنع، وعز يعزـ بضمها إذا غلب‏.‏ فهو ـ سبحانه ـ فى نفسه قوى متين، وهو منيع لا ينال، وهو غالب لا يغلب‏.‏

والحكيم يتضمن حكمه وعلمه وحكمته فيما يقوله ويفعله، فإذا أمر بأمر كان حسناً، وإذا أخبر بخبر كان صدقاً،وإذا أراد خلق شىء كان صواباً،فهو حكيم فى إرادته وأفعاله وأقواله‏.‏

 فصــل

وقد تضمنت هذه الآية ثلاثة أصول‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه قائم بالقسط، وأنه العزيز الحكيم؛ فتضمنت وحدانيته المنافية للشرك، وتضمنت عدله المنافى للظلم، وتضمنت عزته وحكمته المنافية للذل والسفه، وتضمنت تنزيهه عن الشرك والظلم والسفه، ففيها إثبات التوحيد، وإثبات العدل، وإثبات الحكمة، وإثبات القدرة‏.‏

والمعتزلة قد تحتج بها على ما يدعونه من التوحيد والعدل والحكمة ولا حجة فيها لهم، لكن فيها حجة عليهم، وعلى خصومهم الجبرية أتباع الجهم بن صفوان؛ الذين يقولون‏:‏ كل ما يمكن فعله فهو عدل، وينفون الحكمة، فيقولون‏:‏ يفعل لا لحكمة، فلا حجة فيها لهم؛ فإنه أخبر أنه لا إله إلا هو، وليس فى ذلك نفى الصفات، وهم يسمون نفى الصفات توحيدا، بل الإله هو المستحق للعبادة، والعبادة لا تكون إلا مع محبة المعبود‏.‏

والمشركون جعلوا للّه أنداداً يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حباً لله، فدل ذلك على أن المؤمنين يحبون الله أعظم من محبة المشركين لأندادهم، فعلم أن الله محبوب لذاته، ومن لم يقل بذلك لم يشهد فى الحقيقة أن لا إله إلا هو‏.‏

والجهمية والمعتزلة يقولون‏:‏ إن ذاته لا تحب، فهم فى الحقيقة منكرون إلهيته، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏

وقيامه بالقسط مقرون بأنه لا إله الا هو، فذكر ذلك على أنه لا يماثله أحد فى شىء من أموره، والمعتزلة تجعل القسط منه مثل القسط من المخلوقين، فما كان عدلا من المخلوقين كان عدلا من الخالق، وهذا تسوية منهم بين الخالق والمخلوق، وذلك قَدْح فى أنه لا إله إلا هو‏.‏

والجهمية عندهم أى شىء أمكن وقوعه كان قسطاً، فيكون قوله‏:‏ ‏{‏قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ‏}‏ كلاما لا فائدة فيه ولا مدح؛ فإنه إذا كان كل مقدور قسطا كان المعنى أنه قائم بما يفعله، والمعنى أنه فاعل لما يفعله، وليس فى هذا مدح، ولا هو المفهوم من كونه قائما بالقسط، بل المفهوم منه أنه يقوم بالقسط لا بالظلم مـع قدرته عليه، لكنه ـ سبحانه ـ مقدس منزه أن يظلم أحدا ً،كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏49‏]‏، وقد أمر عباده أن يكونوا قوامين بالقسط، وقال‏:‏‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏ الرعد‏:‏33 ‏]‏، فهو يقوم عليها بكسبها لا بكسب غيرها، وهذا من قيامه بالقسط‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا‏}‏ الآية ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وأيضا، فمن قيامه بالقسط وقيامه على كل نفس بما كسبت‏:‏ أنه لا يظلم مثقال ذرة، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ‏}‏ إلى آخرها ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏

والمعتزلة تحبط الحسنات العظيمة الكثيرة بكبيرة واحدة، وتحبط إيمانه وتوحيده بما هو دون ذلك من الذنوب، وهذا مما تفردوا به من الظلم الذى نزه الله نفسه عنه، فهم ينسبون الله إلى الظلم لا إلى العدل، والله أعلم‏.‏

 فصــل

وقوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏18‏]‏ إثبات لعزته وحكمته، وفيها رد على الطائفتين الجبرية والقدرية ـ فإن الجبرية ـ أتباع جهم ـ ليس له عندهم فى الحقيقة حكمة؛ ولهذا لما أرادت الأشعرية أن تفسر حكمته فسروها إما بالقدرة، وإما بالعلم، وإما بالإرادة‏.‏

ومعلوم أنه ليس فى شىء من ذلك إثبات لحكمته؛ فإن القادر والعالم والمريد قد يكون حكيمًا وقد لا يكون، والحكمة أمر زائد على ذلك، وهم ويقولون‏:‏ إن الله لا يفعل لحكمة، ويقولون أيضاً‏:‏ الفعل لغرض إنما يكون ممن ينتفع ويتضرر، ويتألم ويلتذ؛ وذلك ينفى عن الله‏.‏

والمعتزلة أثبتوا أنه يفعل لحكمة، وسموا ذلك غرضاً، هم وطائفة من المثبتة؛ لكن قالوا‏:‏ الحكمة أمر منفصل عنه لا يقوم به، كما قالوا فى كلامه وإرادته، فاستطال عليهم المجبرة بذلك، فقالوا‏:‏ الحكيم‏:‏ من يفعل لحكمة تعود إلى نفسه، فإن لم تعد إلى نفسه لم يكن حكيماً بل كان سفيهاً‏.‏

فيقال للمجبرة‏:‏ ما نفيتم به الحكمة هو بعينه حجة من نفى الإرادة من المتفلسفة ونحوهم، قالوا‏:‏ الإرادة لا تكون إلا لمن ينتفع ويتضرر، ويتألم ويلتذ، وإثبات إرادة بدون هذا لا يعقل، وأنتم تقولون‏:‏ نحن موافقون للسلف وسائر أهل السنة على إثبات الإرادة، فما كان جوابا لكم عن هذا السؤال فهو جواب سائر أهل السنة لكم، حيث أثبتم إرادة بلا حكمة يراد الفعل لها‏.‏ وقد بسط هذا فى غير هذا الموضع، وبين ما فى لفظ هذه الحجة من الكلمات المجملة، والله أعلم‏.‏

 فصــل

وإثبات شهادة أولى العلم يتضمن أن الشهادة له بالوحدانية يشهد بها له غيره من المخلوقين؛ الملائكة والبشر، وهذا متفق عليه، يشهدون أن لا إله إلا الله، ويشهدون بما شهد به لنفسه‏.‏

وزعم طائفة من الاتحادية أنه لا يوحد أحد الله وأنشدوا‏:‏

ما وحد الواحد من واحد ** إذ كل من وحده جاحد

وهؤلاء حقيقة قولهم من جنس قول النصارى فى المسيح، يدعون أن حقيقة التوحيد أن يكون الموحِّد هو الموحَّد؛ فيكون الحق هو الناطق على لسان العبد، و الله الموحد لنفسه لا العبد، وهذا ـ فى زعمهم ـ هو السر الذى كان الحَّلاج يعتقده، وهو بزعمهم قول خواص العارفين، لكن لا يصرحون به‏.‏

وحقيقة قولهم‏:‏ أنهم اعتقدوا فى عموم الصالحين ما اعتقدته النصارى فى المسيح، لكن لم يمكنهم إظهاره؛ فإن دين الإسلام يناقض ذلك مناقضة ظاهرة، فصاروا يشيرون إليه، ويقولون‏:‏إنه من السر المكتوم، ومن علم الأسرار الغيبية، فلا يمكن أن يباح به،وإنما هو قول ملحد، وهو شر من قول النصارى فإن النصارى إنما قالوا ذلك فى المسيح لم يقولوه فى جميع الصالحين‏.‏

وقد بسط الكلام على ذلك فى غير موضع؛ إذ المقصود التنبيه على ما فى هذه الآية من أصول الإيمان، والتوحيد و إبطال قول المبتدعين‏.‏

 فصــل

وإذا كانت شهادة الله تتضمن بيانه للعباد، ودلالته لهم، وتعريفهم بما شهد به لنفس، فلابد أن يعرفهم أنه شهد، فإن هذه الشهادة أعظم الشهادات،وإلا فلو شهد شهادة لم يتمكن من العلم بها لم ينتفع بذلك، ولم تقم عليهم حجة بتلك الشهادة، كما أن المخلوق إذا كانت عنده شهادة لم يبينها بل كتمها لم ينتفع أحد بها، ولم تقم بها حجة‏.‏

ولهذا ذم ـ سبحانه ـ من كتم العلم الذى أنزله وما فيه من الشهادة، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏140‏]‏، أى‏:‏ عنده شهادة من الله وكتمها، وهو العلم الذى بينه الله، فإنه خبر من الله وشهادة منه بما فيه‏.‏

وقد ذم من كتمه، كما كتم بعض أهل الكتاب ما عندهم من الخبر والشهادة لإبراهيم وأهل بيته، وكتموا إسلامهم، وما عندهم من الأخبار بمثل ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وبصفته وغير ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 159‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 146‏]‏‏.‏

والشهادة لابد فيها من علم الشاهد وصدقه وبيانه، لا يحصل مقصود الشهادة إلا بهذه الأمور؛ ولهذا ذم من يكتم ويحرف، فقال تعالى‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏‏.‏

وفى الصحيحين عن حكيم بن حزام عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏‏(‏البَيِّعَان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صَدَقا وبَيَّنَا بُورِك لهما فى بَيْعِهما، وإن كذبا وكَتَما مُحِقَتْ بركة بيعهما‏)‏‏.‏

 فصــل

وإذا كان لابد من بيان شهادته للعباد؛ ليعلموا أنه قد شهد، فهو قد بينها بالطريقين؛ بالسمع والبصر‏.‏ فالسميع يسمع آيات الله المتلوة المنزلة، والبصير يعاين آياته المخلوقة الفعلية؛ وذلك أن شهادته تتضمن بيانه ودلالته للعباد وتعريفهم ذلك، وذلك حاصل بآياته، فإن آياته هى دلالاته وبراهينه التى بها يعرف العباد خبره وشهادته، كما عرفهم بها أمره ونهيه، وهو عليم حكيم؛ فخبره يتضمن أمره ونهيه، وفعله يبين حكمته‏.‏

فالأنبياء إذا أخبروا عنه بكلامه عرف بذلك شهادته وآياته القولية، ولابد أن يعرف صدق الأنبياء فيما أخبروا عنه؛ وذلك قد عرفه بآياته التى أيد بها الأنبياء ودل بها على صدقهم؛ فإنه لم يبعث نبيا إلا بآيه تبين صدقه، إذ تصديقه بما لا يدل على صدقه غير جائز، كما قال‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏ أى‏:‏ بالآيات البينات، وقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏43، 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏183‏]‏، وقال ‏{‏فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏184‏]‏‏.‏

وفى الصحيحين عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من نبى من الأنبياء إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذى أوتيته وَحْيًا أوحاه الله إلى فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة‏)‏‏.‏

فالآيات والبراهين التى أرسل بها الرسل دلالات الله على صدقهم، دل بها العباد، وهى شهادة الله بصدقهم فيما بلغوا عنه، والذى بلغوه فيه شهادته لنفسه فيما أخبر به، ولهذا قال بعض النُّظَّار‏:‏ إن المعجزة تصديق الرسول، وهى تجرى مجرى المرسل، صدقت فهى تصديق بالفعل، تجرى مجرى التصديق بالقول؛ إذ كان الناس لا يسمعون كلام الله المرسل منه، وتصديقه إخبار بصدقه، وشهادة له بالصدق وشهادة له بأنه أرسله وشهادة له بأن كل ما يبلغه عنه كلامه‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ اسمه المؤمن، وهو فى أحد التفسيرين المصدق، الذى يصدق أنبياءه فيما أخبروا عنه بالدلائل التى دل بها على صدقه‏.‏

وأما الطريق العيانى فهو‏:‏ أن يرى العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحى الذى بلغته الرسل عن اللّه حق، كما قال تعالى‏:‏‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏53‏]‏ أى‏:‏ أو لم يكف بشهادته المخبرة بما علمه، وهو الوحى الذى أخبر به الرسول؛ فإن اللّّه على كل شىء شهيد وعليم به، فإذا أخبر به وشهد كان ذلك كافياً، وإن لم ير المشهود به، وشهادته قد علمت بالآيات التى دل بها على صدق الرسول، فالعالم بهذه الطريق لا يحتاج أن ينظر الآيات المشاهدة، التى تدل على أن القرآن حق، بل قد يعلم ذلك بما علم به أن الرسول صادق فيما أخبر به عن شهادة الله ـ تعالى ـ وكلامه‏.‏

وكذلك ذكر الكتاب المنزل، فقال‏:‏‏{‏وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ‏}‏ الآيات إلى قوله‏:‏‏{‏إِلَّا الظَّالِمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏46 ـ49‏]‏ فبين أن القرآن آيات بينات فى صدور الذين أوتوا العلم، فإنه من أعظم الآيات البينة الدالة على صدق من جاء به، وقد اجتمع فيه من الآيات ما لم يجتمع فى غيره؛ فإنه هو الدعوة والحجة، وهو الدليل والمدلول عليه، والحكم، وهو الدعوى، وهو البينة على الدعوى، وهو الشاهد والمشهود به‏.‏

وقوله‏:‏‏{‏فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏49‏]‏، سواء أريد به أنه بين فى صدورهم،أو أنه محفوظ في صدورهم، أو أريد به الأمران وهو الصواب، فإنه محفوظ فى صدور العلماء، بين فى صدورهم، يعلمون أنه حق، كما قال‏:‏ ‏{‏وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏6‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏19‏]‏،‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏‏[‏الحج‏:‏ 54‏]‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 50-52‏]‏، فيها بيان ما يوجب السعادة للمؤمنين وينجيهم من العذاب‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، فإنه إذا كان عالماً بالأشياء كانت شهادته بعلم، وقد بين شهادته بالآيات الدالة على صدق الرسول، ومنها القرآن، و الله أعلم‏.‏

 فصــل

وأما كونه ـ سبحانه ـ صادقا، فهذا معلوم بالفطرة الضرورية لكل أحد؛ فإن الكذب من أبغض الصفات عند بني آدم، فهو ـ سبحانه ـ منزه عن ذلك، وكل إنسان محمود يتنزه عن ذلك؛ فإن كل أحد يذم الكذب، فهو وصف ذم على الإطلاق‏.‏

وأما عدم علم الإنسان ببعض الأشياء، فهذا من لوازم المخلوق، ولا يحيط علما بكل شىء إلا اللّه، فلم يكن عدم العلم عند الناس نقصا كالكذب؛ فلهذا يبين الرب علمه بما يشهد به، وأنه أصدق حديثا من كل أحد، وأحسن حكماً، وأصدق قيلا؛ لأنه ـ سبحانه ـ أحق بصفات الكمال من كل أحد، وله المثل الأعلى فى السموات والأرض، وهو يقول الحق، وهو يهدى السبيل وهو سبحانه ـ يتكلم بمشيئته وقدرته‏.‏

و‏{‏وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏43‏]‏، وهم أهل الكتاب، فهم يشهدون بما جاءت به الأنبياء قبل محمد، فيشهدون أنهم أتوا بمثل ما أتى به كالأمر بعبادة اللّّه وحده، والنهى عن الشرك، والإخبار بيوم القيامة، والشرائع الكلية، ويشهدون أيضاً بما في كتبهم من ذكر صفاته،ورسالته وكتابه‏.‏ وهذان الطريقان بهما تثبت نبوة النبى صلى الله عليه وسلم، وهى الآيات والبراهين الدالة على صدقه، أو شهادة نبى آخر قد علم صدقه له بالنبوة‏.‏

فذكر هذين النوعين بقوله‏:‏‏{‏قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 43‏]‏، فتلك يعلم بها صدقه بالنظر العقلى فى آياته وبراهينه، وهذه يعلم بها صدقه بالخبر السمعى المنقول عن الأنبياء قبله‏.‏

وكذلك قوله‏:‏‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏، فقوله‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهِ‏}‏ فيها وجهان‏:‏

قيل‏:‏ هو جواب السائل، وقوله‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ‏}‏ خبر مبتدأ، أى‏:‏ هو شهيد‏.‏ وقيل‏:‏ هو مبتدأ، وقوله‏:‏ ‏{‏شَهِيدٌ‏}‏ خبره، فأغنى ذلك عن جواب الاستفهام والأول‏:‏ على قراءة من يقف على قوله‏:‏ ‏{‏قٍلٌ بلَّه‏}‏، والثانى‏:‏ على قراءة من لا يقف، وكلاهما صحيح، لكن الثانى أحسن وهو أتم‏.‏

وكل أحد يعلم أن الله أكبر شهادة، فلما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً‏}‏ علم أن الله أكبر شهادة من كل شىء، فقيل له‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، ولما قال‏:‏ ‏{‏اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ كان فى هذا ما يغنى عن قوله‏:‏ إن الله أكبر شهادة‏.‏ وذلك أن كون الله أكبر شهادة هو معلوم، ولا يثبت بمجرد قوله‏:‏ ‏{‏أَكْبَرُ شَهَادةً‏}‏ بخلاف كونه شهيدا بينه وبينهم؛ فإن هذا مما يعلم بالنص والاستدال، فينظر‏:‏ هل شهد الله بصدقه وكذبهم فى تكذيبه؛ أم شهد بكذبه وصدقهم فى تكذيبه‏؟‏ وإذا نظر فى ذلك علم أن الله شهد بصدقه وكذبهم بالنوعين من الآيات، بكلامه الذى أنزله، وبما بين أنه رسول صادق‏.‏

ولهذا أعقبه بقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏19‏]‏، فإن هذا القرآن فيه الإنذار، وهو آية شهد بها أنه صادق، وبالآيات التى يظهرها فى الآفاق وفى الأنفس، حتى يتبين لهم أن القرآن حق‏.‏

وقوله فى هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 19‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏ قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 52‏]‏، وكذلك قوله‏:‏‏{‏هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏، فذكر ـ سبحانه ـ أنه شهيد بينه وبينهم، ولم يقل‏:‏ شاهد علينا، ولا شاهد لى؛ لأنه ضمن الشهادة الحكم، فهو شهيد يحكم بشهادته بينى وبينكم، والحكم قدر زائد على مجرد الشهادة؛فإن الشاهد قد يؤدى الشهادة‏.‏ وأما الحاكم فإنه يحكم بالحق للمحق على المبطل ويأخذ حقه منه، ويعامل المحق بما يستحقه، والمبطل بما يستحقه‏.‏

وهكذا شهادة الله بين الرسول ومتبعيه، وبين مكذبيه، فإنها تتضمن حكم الله للرسول وأتباعه، يحكم بما يظهره من الآيات الدالة على صدق الرسول على أنها الحق، وتلك الآيات أنواع متعددة، ويحكم له أيضاً بالنجاة والنصر، والتأييد، وسعادة الدنيا والآخرة، ولمكذبيه بالهلاك والعذاب، وشقاء الدنيا والآخرة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ‏}‏‏[‏التوبة‏:‏ 33، والفتح‏:‏28، والصف‏:‏ 9‏]‏، فيظهره بالدلائل والآيات العلمية التى تبين أنه حق، ويظهره أيضاً بنصره وتأييده على مخالفيه، ويكون منصوراً، كما قال تعالى‏:‏‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، فهذه شهادة حكم، كما قدمنا ذلك فى قوله‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ‏}‏‏.‏

قال مجاهد والفراء وأبو عبيدة‏:‏ ‏{‏شَهِدَ اللّهُ‏}‏ أى‏:‏ حكم وقضى، لكن الحكم فى قوله‏:‏ ‏{‏بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ أظهر، وقد يقول الإنسان لآخر‏:‏ فلان شاهد بينى وبينك، أى يتحمل الشهادة بما بيننا، فالله يشهد بما أنزله ويقوله، وهذا مثل الشهادة على أعمال العباد، لكن المكذبون ما كانوا ينكرون التكذيب، ولا كانوا يتهمون الرسول بأنه ينكر دعوى الرسالة، فيكون الشهيد يتضمن الحكم أثبت وأشبه بالقرآن، والله أعلم‏.‏

 فصــل

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ فإن شهادته بما أنزل إليه هى شهادته بأن الله أنزله منه، وأنه أنزله بعلمه، فما فيه من الخبر هو خبر عن علم الله ليس خبراً عمن دونه، وهذا كقوله‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏14‏]‏، وليس معنى مجرد كونه أنزله أنه هو معلوم له، فإن جميع الأشياء معلومة له، وليس فى ذلك ما يدل على أنها حق، لكن المعنى‏:‏ أنزله فيه علمه، كما يقال‏:‏ فلان يتكلم بعلم، ويقول بعلم؛ فهو ـ سبحانه ـ أنزله بعلمه، كما قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏[‏الفرقان‏:‏6‏]‏، ولم يقل‏:‏ تكلم به بعلمه؛ لأن ذلك لا يتضمن نزوله إلى الأرض‏.‏

فإذا قال‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ تضمن أن القرآن المنزل إلى الأرض فيه علم الله، كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنْ

حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏61‏]‏، وذلك يتضمن أنه كلام الله نفسه، منه نزل ولم ينزل من عند غيره؛ لأن غير الله لا يعلم ما فى نفس الله من العلم ـ ونفسه هى ذاته المقدسة ـ إلا أن يعلمه الله بذلك، كما قال المسيح ـ عليه السلام-‏:‏ ‏{‏تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وقالت الملائكة‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏32‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏255‏]‏، وقال‏:‏‏{‏فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏26، 27‏]‏‏.‏ فغيبه الذى اختص به لا يظهر عليه أحداً إلا من ارتضى من رسول، والملائكة لا يعلمون غيب الرب الذى اختص به‏.‏

وأما ما أظهره لعباده فإنه يعلمه من شاء، وما تتحدث به الملائكة فقد تسترق الشياطين بعضه، لكن هذا ليس من غيبه وعلم نفسه الذى يختص به، بل هذا قد أظهر عليه من شاء من خلقه ،وهو ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏166‏]‏ فشهد أنه أنزله بعلمه بالآيات والبراهين التى تدل على أنه كلامه، وأن الرسول صادق‏.‏

وكذلك قال فى هود‏:‏‏{‏فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏13‏]‏، لما تحداهم بالإتيان بمثله فى قوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏34‏]‏ ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله، فعجزوا عن ذا وذاك، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مثله فعجزوا؛ فإن الخلائق لا يمكنهم أن يأتوا بمثله ولا بسورة مثله، وإذا كان الخلق كلهم عاجزين عن الإتيان بسورة مثله ـ ومحمد منهم ـ علم أنه منزل من الله، نزله بعلمه، لم ينزله بعلم مخلوق، فما فيه من الخبر، فهو خبر عن علم الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 6‏]‏؛ لأن فيه من الأسرار التى لا يعلمها إلا الله ما يدل على أن الله أنزله، فذكره ذلك يستدل به تارة على أنه حق منزل من الله، لكن تضمن من الأخبار عن أسرار السموات والأرض والدنيا والأولين والآخرين وسر الغيب ما لا يعلمه إلا الله‏.‏ فمن هنا نستدل بعلمنا بصدق أخباره أنه من الله‏.‏

وإذا ثبت أنه أنزله بعلمه ـ تعالى ـ استدللنا بذلك على أن خبره حق، وإذا كان خبراً بعلم الله فما فيه من الخبر يستدل به عن الأنبياء وأممهم، وتارة عن يوم القيامة وما فيها، والخبر الذى يستدل به لابد أن نعلم صحته من غير جهته، وذلك كإخباره بالمستقبلات، فوقعت كما أخبر، وكإخباره بالأمم الماضية بما يوافق ما عند أهل الكتاب من غير تعلم منهم، وإخباره بأمور هى سر عند أصحابها، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ‏}‏‏[‏التحريم‏:‏ 3‏]‏، فقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏6‏]‏ استدلال بإخباره؛ ولهذا ذكره تكذيباً لمن قال‏:‏ هو ‏{‏إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَنزَلَهُ‏}‏ استدلال على أنه حق، وأن الخبر الذى فيه عن الله حق؛ ولهذا ذكر ذلك بعد ثبوت التحدى، وظهور عجز الخلق عن الإتيان بمثله‏.‏

 فصــل

ومن شهادته‏:‏ ما يجعله فى القلوب من العلم، وما تنطق به الألسن من ذلك، كما فى الصحيح أن النبى صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً،فقال‏:‏ ‏(‏وَجَبَت، وجَبَتْ‏)‏، ومر عليه بجنازة، فأثنوا عليها شرًا، فقال‏:‏ ‏(‏وجبت، وجبت‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ما قولك‏:‏ وجبت وجبت‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هذه الجنازة أثنيتم عليها خيراً فقلت‏:‏ وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شراً فقلت‏:‏ وجبت لها النار، أنتم شهداء الله فى الأرض‏)‏ فقوله‏:‏ ‏(‏شهداء الله‏)‏ أضافهم إلى الله تعالى‏.‏

والشهادة تضاف تارة إلى من يشهد له، وإلى من يشهد عنده، فتقبل شهادته كما يقال‏:‏ شهود القاضي وشهود السلطان، ونحو ذلك من الذين تقبل شهادتهم، وقد يدخل فى ذلك من يشهد عليه بما تحمله من الشهادة، ليؤديها عند غيره، كالذين يشهد الناس عليهم بعقودهم أو أقاريرهم‏.‏

فشهداء الله الذىن يشهدون له بما جعله وفعله، ويؤدون الشهادة عنه، فإنهم إذا رأوا من جعله الله براً تقياً يشهدون أن الله جعله كذلك، ويؤدون عنه الشهادة، فهم شهداء الله فى الأرض، وهو ـ سبحانه ـ الذى أشهدهم بأن جعلهم يعلمون ما يشهدون به، وينطقون به وإعلامه لهم بذلك هو شهادة منه بذلك، فهذا أيضاً من شهادته‏.‏

وقد قال تعالى‏:‏‏{‏لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏64‏]‏، وفسر النبى صلى الله عليه وسلم البشرى بالرؤيا الصالحة، وفسرها بثناء الناس وحمدهم، والبشرى خبر بما يسر، والخبر شهادة بالبشرى من شهادة الله تعالى، والله ـ سبحانه ـ أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏97‏]‏‏:‏ المراد به أمنه عند الموت من الكفر عند عرض الأديان، أم المراد به إذا أحدث حدثًا لا يقتص منه ما دام فى الحرم‏؟‏

فأجاب‏:‏

التفسير المعروف فى أن الله جعل الحرم بلداً آمنا قدراً وشرعا، فكانوا فى الجاهلية يسفك بعضهم دماء بعض خارج الحرم، فإذا دخلوا الحرم، أو لقى الرجل قاتل أبيه، لم يهجروا حرمته، ففى الإسلام كذلك وأشد‏.‏

لكن لو أصاب الرجل حَدا خارج الحرم ثم لجأ إليه فهل يكون آمنا لا يقام عليه الحد فيه أم لا‏؟‏ فيه نزاع‏.‏ وأكثر السلف على أنه يكون آمنا، كما نقل عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما، وهو مذهب أبى حنيفة والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما‏.‏

وقد استدلوا بهذه الآية وبقول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله حَرَّم مكة يوم خلق اللّّه السموات والأرض، وأنها لم تحل لأحد قبلى، ولا تحل لأحد بعدى، وإنما أحلت لى ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها، فإن أحد ترخص بقتال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقولوا‏:‏ إنما أحلها اللّه لرسوله ولم يحلها لك‏)‏‏.‏

ومعلوم أن الرسول إنما أبيح له فيها دم من كان مباحا فى الحل، وقد بين أن ذلك أبيح له دون غيره‏.‏

والمراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ‏}‏‏:‏ الحرم كله‏.‏

وأما عرض الأديان وقت الموت فيبتلى به بعض الناس دون بعض، ومن لم يحج خيف عليه الموت على غير الإسلام، كما جاء فى الحديث‏:‏ ‏(‏من ملك زاداً وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانيا‏)‏‏.‏والله أعلم‏.‏

 وللشّيخ ـ رَحمَه الله ‏:‏

فى قـوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏‏:‏ هذا هو الصواب الذى عليه جمهور المفسرين؛ كابن عباس، وسعيد بن جُبيْر، وعِكْرمة، والنَّخعِى‏.‏ وأهل اللغة كالفَرَّاء، وابن قتيبة، والزجاج، وابن الأنبارى‏.‏ وعبارة الفراء‏:‏ يخوفكم بأوليائه، كما قال‏:‏ ‏{‏لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 2‏]‏، ببأس شديد، وقوله‏:‏‏{‏لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏15‏]‏، وعبارة الزجاج‏:‏ يخوفكم من أوليائه‏.‏

قال ابن الأنبارى‏:‏ والذى نختاره فى الآية‏:‏ يخوفكم أولياءه‏.‏ تقول العرب‏:‏ أعطيت الأموال،أي‏:‏ أعطيت القوم الأموال فيحذفون المفعول الأول ويقتصرون على ذكر الثانى؛ وهذا لأن الشيطان يخوف الناس أولياءه تخويفا مطلقا، ليس له فى تخويف ناس بناس ضرورة، فحذف الأول ليس مقصوداً، وهذا يسمى حذف اختصار، كما يقال‏:‏ فلان يعطى الأموال والدراهم‏.‏

وقد قال بعض المفسرين‏:‏ يخوف أولياءه المنافقين، ونقل هذا عن الحسن والسُّدِّى، وهذا له وجه سنذكره، لكن الأول أظهر؛ لأن الآية إنما نزلت بسبب تخويفهم من الكفار، كما قال قبلها‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً‏}‏ الآيات ‏[‏آل عمران‏:‏173‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فهى إنما نزلت فيمن خوف المؤمنين من الناس، وقد قال‏:‏‏{‏يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ‏}‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏، والضمير عائد إلى أولياء الشيطان الذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏َاخْشَوْهُمْ‏}‏ قبلها‏.‏

وأما ذلك القول، فالذى قاله فسرها من جهة المعنى، وهو أن الشيطان إنما يخوف أولياءه بالمؤمنين؛ لأن سلطانه على أوليائه بخوف يدخل عليهم المخاوف دائما، فالمخاوف منصبة إليهم محيطة بقولهم، وإن كانوا ذوي هيئات وعَدَد وعُدَد فلا تخافوهم‏.‏

وأما المؤمنون فهم متوكلون على الله، لا يخوفهم الكفار، أو أنهم أرادوا المفعول الأول، أى يخوف المنافقين أولياءه، وإلا فهو يخوف الكفار، كما يخوف المنافقين، ولو أنه أريد أنه يخوف أولياءه، أى يجعلهم خائفين لم يكن للضمير ما يعود عليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخَافُوهُمْ‏}‏ وأيضا، فهذا فيه نظر؛ فإن الشيطان يَعِد أولياءه ويُمَنِّيهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏48‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏120‏]‏‏.‏

ولكن الكفار يلقى الله فى قلوبهم الرعب من المؤمنين والشيطان لا يختار ذلك، قال تعالى‏:‏‏{‏لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏13‏]‏،وقال تعالى‏:‏‏{‏إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏12‏]‏، وقال‏:‏‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ‏}‏‏[‏آل عمران‏:‏151‏]‏، وفى حديث قرطبة أن جبريل قال‏:‏ ‏(‏إنى ذاهب إليهم فمزلزل بهم الحِصْن‏)‏‏.‏ فتخويف الكفار والمنافقين وإرعابهم هو من الله نصرة للمؤمنين‏.‏

ولكن الذين قالوا ذلك من السلف أرادوا‏:‏ أن الشيطان يخوف الذين أظهروا الإسلام، فهم يوالون العدو، فصاروا بذلك منافقين، وإنما يخاف من الكفار المنافقون بتخويف الشيطان لهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏56‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ الآيات، إلى قوله‏:‏ ‏{‏يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏19، 20‏]‏، فكلا القولين صحيح من حيث المعنى، لكن لفظ أوليائه هم الذين يجعلهم الشيطان مخوفين لا خائفين، كما دل عليه سياق الآية ولفظها، والله أعلم‏.‏

وإذا جعلهم الشيطان مخوفين، فإنما يخافهم من خوفه الشيطان منهم فجعله خائفاً‏.‏

فالآية دلت على أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين، ويجعل ناساً خائفين منهم، ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، بل يجب عليه أن يخاف الله، فخوف اللّه أمر به وخوف الشيطان وأوليائه نهى عنه‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏150‏]‏، فنهى عن خشية الظالم وأمر بخشيته، والذين يبلغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا اللّه‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏51‏]‏‏.‏

وبعض الناس يقول‏:‏ يارب، إنى أخافك وأخاف من لا يخافك، وهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف اللّه وحده، ولا يخاف أحدًا، لا من يخاف الله ولا من لا يخاف الله؛ فإن من لا يخاف اللّه أخس وأذل أن يخاف؛ فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، والله أعلم‏.‏

 وَقاَلَ شيخ الإِسلام فى الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏27‏]‏‏.‏

فذكر ما يتعلق بشهوات الآدميين من سائر ما تشتهيه أنفسهم حتى النساء والمردان، وقال‏:‏

العبد يجب عليه إذا وقع فى شىء من ذلك أن يجاهد نفسه وهواه، وتكون مجاهدته للّه ـ تعالى ـ وحده‏.‏

ثم قال‏:‏ وميل النفس إلى النساء عام فى طبع جميع بنى آدم، وقد يبتلى كثير منهم بالميل إلى الذكران كالمردان، وإن لم يكن يفعل الفاحشة الكبرى كان بما هو دون ذلك من المباشرة، وإن لم تكن كان بالنظر، ويحصل للنفس بذلك ما هو معروف عند الناس‏.‏

وقد ذكر الناس من أخبار العشاق ما يطول وصفه، فإذا ابتلى المسلم ببعض ذلك كان عليه أن يجاهد نفسه فى طاعة الله ـ تعالى ـ وهو مأمور بهذا الجهاد، وليس هو أمراً حرمه على نفسه فيكون فى طاعة نفسه وهواه، بل هو أمر حرمه اللّه ورسوله ولا حيلة فيه، فتكون المجاهدة للنفس فى طاعة اللّه ورسوله‏.‏

وفى حديث أبى يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس مرفوعا‏:‏ ‏(‏من عشق فعَفَّ وكتم وصبر ثم مات، فهو شهيد‏)‏ وأبو يحيى فى حديثه نظر، لكن المعنى الذى ذكر فيه دل عليه الكتاب والسنة؛ فإن اللّه أمره بالتقوى والصبر، فمن التقوى أن يعف عن كل ما حرم الله من نظر بعين، ومن لفظ بلسان، ومن حركة بيد ورجل‏.‏ والصبر أن يصبر عن شكوى به إلى غير الله، فإن هذا هو الصبر الجميل‏.‏

وأما الكتمان فيراد به شيئان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكتم بَثَّه وألمه، ولا يشكو إلى غير اللّه، فمتى شكا إلى غير اللّه نقص صبره، وهذا أعلى الكتمانين، لكن هذا لا يصبر عليه كل أحد، بل كثير من الناس يشكو ما به، وهذا على وجهين؛ فإن شكا ذلك إلى طبيب يعرف طب النفوس ليعالج نفسه بعلاج الإيمان فهو بمنزلة المستفتى، وهذا حسن‏.‏ وإن شكا إلى من يعينه على المحرم فهذا حرام‏.‏ وإن شكا إلى غيره لما فى الشكوى من الراحة كما أن المصاب يشكى مصيبته إلى الناس من غير أن يقصد تعلم ما ينفعه، ولا الاستعانة على معصية، فهذا ينقص صبره، لكن لا يأثم مطلقاً إلا إذا اقترن به ما يحرم كالمصاب الذى يتسخط‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكتم ذلك فلا يتحدث به مع الناس؛ لما فى ذلك من إظهار السوء والفاحشة؛ فإن النفوس إذا سمعت مثل هذا تحركت وتشهت وتمنت وتتيمت‏.‏ والإنسان متى رأى أو سمع أو تخيل من يفعل ما يشتهيه، كان ذلك داعيا له إلى الفعل، والنساء متى رأين البهائم تنزو الذكور منها على الإناث مِلْنَ إلى الباءة والمجامعة، والرجل إذا سمع من يفعل مع المردان والنساء أو رأى ذلك أو تخيله فى نفسه، دعاه ذلك إلى الفعل، وإذا ذكر الإنسان طعاما اشتهاه ومال إليه، وإن وصف له ما يشتهيه من لباس أو امرأة أو مسكن أو غير ذلك، مالت نفسه إليه، والغريب عن وطنه متى ذكر بالوطن حَنَّ إليه‏.‏

فكل ما كان فى نفس الإنسان محبته إذا تصوره تحركت المحبة والطلب إلى ذلك المحبوب المطلوب، إما إلى وصفه وإما إلى مشاهدته، وكلاهما يحصل به تخيل فى النفس، وقد يحصل التخيل بالسماع والرؤية أو التفكر فى بعض الأمور المتعلقة به؛ فإذا تخيلت النفس تلك الأمور المتعلقة انقلبت إلى تخيلة أخرى فتحركت داعية المحبة، سواء كانت المحبة محمودة أو مذمومة‏.‏

ولهذا تتحرك النفوس إلى الحج إذا ذكر الحجاز، وتتحرك بذكر الأبرق والأجرع والعُلَى ونحو ذلك؛ لأنه رأى تلك المنازل لما كان ذاهبا إلى المحبوب، فصار ذكرها يذكر المحبوب‏.‏ وكذلك إذا ذكر رسول صلى الله عليه وسلم تذكر به، وتحركت محبته‏.‏

فالمبتلى بالفاحشة والعشق، إذا ذكر ما به لغيره تحركت النفوس إلى جنس ذلك؛ لأن النفوس مجبولة على حب الصور الجميلة، فإذا تصورت جنس ذلك تحركت إلى المحبوب؛ ولهذا نهى اللّه عن إشاعة الفاحشة‏.‏

 

وسئل الشّيخ ـ رَحمَه الله ـ عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏34‏]‏، وقوله تعالى‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏11‏]‏، يبين لنا شيخنا هذا النشوز من ذاك‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين،النشوز فى قوله تعالى‏:‏‏{‏تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ‏}‏‏:‏ هو أن تنشز عن زوجها فتنفر عنه، بحيث لا تطيعه إذا دعاها للفراش، أو تخرج من منزله بغير إذنه، ونحو ذلك مما فيه امتناع عما يجب عليها من طاعته‏.‏

وأما النشوز فى قوله‏:‏‏{‏وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا‏}‏، فهو النهوض والقيام والارتفاع‏.‏ وأصل هذه المادة هو الارتفاع والغلظ، ومنه النشز من الأرض وهو المكان المرتفع الغليظ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏259‏]‏، أى نرفع بعضها إلى بعض، ومن قرأ ‏(‏ننشرها‏)‏ أراد نحييها، فسمى المرأة العاصية ناشزاً لما فيها من الغلظ والارتفاع عن طاعة زوجها، وسمى النهوض نشوزاً؛ لأن القاعد يرتفع عن الأرض، والله أعلم‏.‏

وقـال‏:‏

 

فصــل

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ في النساء ‏[‏الآيتان‏:‏36، 37‏]‏، وفى الحديد أنه ‏{‏لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ ‏[‏ الآيتان‏:‏23، 24‏]‏، قد تؤولت فى البخل بالمال والمنع، والبخل بالعلم ونحوه، وهى تعم البخل بكل ما ينفع فى الدين والدنيا من علم ومال وغير ذلك، كما تأولوا قوله‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏3،الأنفال‏:‏3‏]‏، النفقة من المال، والنفقة من العلم‏.‏ وقال معاذ فى العلم‏:‏تعلمه لمن لا يعلمه صدقة‏.‏ وقال أبو الدرداء‏:‏ ما تصدق رجل بصدقة أفضل من موعظة يعظ بها جماعة، فيتفرقون وقد نفعهم الله بها، أو كما قال‏.‏ وفى الأثر‏:‏ نعمت العطية ونعمت الهدية، الكلمة من الخير يسمعها الرجل، ثم يهديها إلى الأخ له، أو كما قال‏.‏

وهذه صدقة الأنبياء وورثتهم العلماء؛ ولهذا كان الله، وملائكته، وحيتان البحر، وطير الهواء، يصلون على معلم الناس الخير، كما أن كاتم العلم يلعنه اللّه ويلعنه اللاعنون، وبسط هذا كثير فى فضل بيان العلم وذم ضده‏.‏

والغرض هنا أن الله يبغض المختال الفخور البخيل به، فالبخيل به الذى منعه، والمختال إما أن يختال فلا يطلبه ولا يقبله، وإما أن يختال على بعض الناس فلا يبذله، وهذا كثيراً ما يقع عند بعض الناس أنه يبخل بما عنده من العلم، ويختال به، وأنه يختال عن أن يتعدى من غيره، وضد ذلك التواضع فى طلبه،وبذله، والتكرم بذلك‏.‏

وقال شيخ الإِسلاَم ـ رَحِمهُ اللَّه‏:‏

 

فصــل

قد كتبنا فى غير موضع الكلام على جمع الله ـ تعالى ـ بين الخيلاء والفخر وبين البخل،كما فى قوله‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ فى النساء ‏[‏36، 37‏]‏ والحديد ‏[‏23، 24‏]‏، وضد ذلك الإعطاء والتقوى المتضمنة للتواضع،كما قال‏:‏‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏5‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏128‏]‏، وهذان الأصلان هما جماع الدين العام، كما يقال‏:‏ التعظيم لأمر الله، والرحمة لعباد الله‏.‏

فالتعظيم لأمر اللّه يكون بالخشوع والتواضع، وذلك أصل التقوى والرحمة لعباد الله بالإحسان إليهم، وهذان هما حقيقة الصلاة والزكاة، فإن الصلاة متضمنة للخشوع لله والعبودية له، والتواضع له،والذل له، وذلك كله مضاد للخيلاء والفخر والكبر‏.‏ والزكاة متضمنة لنفع الخلق والإحسان إليهم، وذلك مضاد للبخل‏.‏

ولهذا وغيره، كثر القِران بين الصلاة والزكاة فى كتاب الله‏.‏

وقد ذكرنا فيما تقدم‏:‏أن الصلاة بالمعنى العام تتضمن كل ما كان ذكراً للّه أو دعاء له، كما قال عبد اللّه بن مسعود‏:‏ مادمتَ تذكر اللّه فأنت فى صلاة، ولو كنت فى السوق، وهذا المعنى ـ وهو دعاء اللّه أى قصده والتوجه إليه المتضمن ذكره على وجه الخشوع والخضوع ـ هو حقيقة الصلاة الموجودة فى جميع موارد اسم الصلاة، كصلاة القائم والقاعد والمضطجع‏.‏ والقارئ والأمى والناطق والأخرس، وإن تنوعت حركاتها وألفاظها؛ فإن إطلاق لفظ الصلاة على مواردها هو بالتواطؤ المنافى للاشتراك والمجاز، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع‏.‏

إذ من الناس من ادَّعى فيها الاشتراك،ومنهم من ادعى المجاز، بناء على كونها منقولة من المعنى اللغوى، أو مزيدة، أو على غير ذلك، وليس الأمر كذلك، بل اسم الجنس العام المتواطئ المطلق إذا دل على نوع أو عين، كقولك‏:‏ هذا الإنسان وهذا الحيوان، أو قولك‏:‏ هات الحيوان الذى عندك وهى غنم، فهنا اللفظ قد دل على شيئين‏:‏ على المعنى المشترك الموجود فى جميع الموارد وعلى ما يختص به هذا النوع أو العين، فاللفظ المشترك الموجود في جميع التصاريف على القدر المشترك، وما قرن باللفظ من لام التعريف مثلا أو غيرها دل على الخصوص والتعيين، وكما أن المعنى الكلى المطلق لا وجود له فى الخارج، فكذلك لا يوجد فى الاستعمال لفظ مطلق مجرد عن جميع الأمور المعينة‏.‏

فإن الكلام إنما يفيد بعد العَقْدِ والتركيب، وذلك تقييد وتخصيص كقولك‏:‏ أكرم الإنسان أو الإنسان خير من الفرس‏.‏ ومثله قوله‏:‏ ‏{‏أَقِمِ الصَّلَاةَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏78‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ ومن هنا غلط كثير من الناس فى المعانى الكلية، حيث ظنوا وجودها فى الخارج مجردة عن القيود، وفي اللفظ المتواطئ حيث ظنوا تجرده فى الاستعمال عن القيود‏.‏ والتحقيق‏:‏ أنه لا يوجد المعنى الكلي المطلق في الخارج إلا معينًا مقيدًا، ولا يوجد اللفظ الدال عليه في الاستعمال إلا مقيداً مخصصاً، وإذا قدر المعنى مجرداً كان محله الذهن، وحينئذ يقدر له لفظ مجرد غير موجود فى الاستعمال مجرداً‏.‏

والمقصود هنا أن اسم الصلاة فيه عموم وإطلاق، ولكن لا يستعمل إلا مقروناً بقيد إنما يختص ببعض موارده كصلواتنا، وصلاة الملائكة، والصلاة من اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ وإنما يغلط الناس فى مثل هذا، حيث يظنون أن صلاة هذا الصنف مثل صلاة هذا، مع علمهم بأن هذا ليس مثل هذا، فإذا لم يكن مثله لم يجب أن تكون صلاته مثل صلاته، وإن كان بينهما قدر متشابه، كما قد حققنا هذا فى الرد على الاتحادية والجهمية والمتفلسفة ونحوهم‏.‏

ومن هذا الباب أسماء الله وصفاته، والتى يسمى ويوصف العباد بما يشبهها، كالحى والعليم والقدير، ونحو ذلك‏.‏

وكذلك اسم الزكاة هو المعنى العام،كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏كل معروف صدقة‏)‏؛ ولهذا ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏‏(‏على كل مسلم صدقة‏)‏، وأما الزكاة المالية المفروضة فإنما تجب على بعض المسلمين فى بعض الأوقات، والزكاة المقارنة للصلاة تشاركها فى أن كل مسلم عليه صدقة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يجد‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يستطع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يعين صانعا أو يصنع لأخْرَق‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ فإن لم يستطع‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يكف نفسه عن الشر‏)‏‏.‏

وأما قوله فى الحديث الصحيح ـ حديث أبى ذر وغيره ـ‏:‏ ‏(‏على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة‏)‏، فهذا ـ إن شاء اللّه ـ كتضمن هذه الأعمال نفع الخلائق؛ فإنه بمثل هذا العامل يحصل الرزق والنصر والهدى، فيكون ذلك من الصدقة على الخلق‏.‏

ثم إن هذه الأعمال هى من جنس الصلاة، وجنس الصلاة الذى ينتفع به الغير يتضمن المعنيين‏:‏ الصلاة والصدقة، ألا ترى أن الصلاة على الميت صلاة وصدقة‏؟‏ وكذلك كل دعاء للغير واستغفار، مع أن الدعاء للغير دعاء للنفس أيضاً، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما من رجل يدعو لأخيه بظهر الغيب بدعوة إلا وكل اللّه به ملكا، كلما دعا له بدعوة قال الملك الموكل به‏:‏ آمين، ولك بمثل‏)‏‏.‏

وقــال‏:‏

 

فصــل

قول الناس‏:‏ الآدمى جَبَّار ضعيف، أو فلان جبار ضعيف؛ فإن ضعفه يعود إلى ضعف قواه، من قوة العلم والقدرة، وأما تجبره فإنه يعود إلى اعتقاداته وإراداته، أما اعتقاده‏:‏ فأن يتوهم فى نفسه أنه أمر عظيم فوق ما هو ولا يكون ذلك، وهذا هو الاختيال والخيلاء والمخيلة، وهو أن يتخيل عن نفسه ما لا حقيقة له، ومما يوجب ذلك مدحه بالباطل نظما ونثراً وطلبه للمدح الباطل، فإنه يورث هذا الاختيال‏.‏

وأما الإرادة‏:‏ فإرادة أن يتعظم ويعظم، وهو إرادة العلو فى الأرض والفخر على الناس، وهو أن يريد من العلو ما لا يصلح له أن يريده، وهو الرئاسة والسلطان، حتى يبلغ به الأمر إلى مزاحمة الربوبية كفرعون، ومزاحمة النبوة، وهذا موجود فى جنس العلماء والعُبَّاد والأمراء وغيرهم‏.‏

وكل واحد من الاعتقاد والإرادة يستلزم جنس الآخر؛ فإن من تخيل أنه عظيم أراد ما يليق بذلك الاختيال، ومن أراد العلو فى الأرض فلابد أن يتخيل عظمة نفسه وتصغير غيره، حتى يطلب ذلك، ففى الإرادة يتخيله مقصوداً، وفى الاعتقاد يتخيله موجوداً، ويطلب توابعه من الإرادات‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏18‏]‏، وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الكبر بَطَر الحق وغَمْط الناس‏)‏، فالفخر يشبه غمط الناس، فإن كليهما تكبر على الناس، وأما بطر الحق ـ وهو جحده ودفعه ـ فيشبه الاختيال الباطل، فإنه تخيل أن الحق باطل بجحده ودفعه‏.‏

ثم هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يجعل الاختيال وبطر الحق من باب الاعتقادات، وهو أن يجعل الحق باطلا والباطل حقاً، فيما يتعلق بتعظيم النفس وعلو قدرها،فيجحد الحق الذى يخالف هواها وعلوها، ويتخيل الباطل الذى يوافق هواها وعلوها،ويجعل الفخر وغمط الناس من باب الإرادات؛ فإن الفاخر يريد أن يرفع نفسه ويضع غيره، وكذلك غامط الناس‏.‏

يؤيد هذا ما رواه مسلم فى صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعى، عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد‏)‏، فبين أن التواضع المأمور به ضد البغى والفخر‏.‏ وقال فى الخيلاء التى يبغضها اللّه‏:‏ ‏(‏الاختيال فى الفخر والبغى‏)‏‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏، فكان فى ذلك ما دل على أن الاستطالة على الناس، إن كانت بغير حق فهى بغى؛ إذ البغى مجاوزة الحد، وإن كانت بحق فهى الفخر، لكن يقال على هذا‏:‏ البغى يتعلق بالإرادة، فلا يجوز أن يجعل هو من باب الاعتقاد وقسيمه من باب الإرادة، بل البغى كأنه فى الأعمال والفخر فى الأقوال، أو يقال‏:‏ البغى بطر الحق، والفخر غمط الناس‏.‏

الوجه الثانى‏:‏ أن يكونا جميعاً متعلقين بالاعتقاد والإرادة، لكن الخيلاء غمط الحق، يعود إلى الحق فى نفسه، الذى هو حق الله، وإن لم يكن يتعلق به حق آدمى، والفخر وغمط الناس يعود إلى حق الآدميين، فيكون التنويع لتمييز حق الآدميين مما هو حق لله لا يتعلق الآدميين؛ بخلاف الشهوة فى حال الزنا، وأكل مال الغير؛ فلما قال ـ سبحانه ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن

كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏36،37‏]‏ والبخل منع النافع ـ قيد هذا بهذا، وقد كتبت فيما قبل هذا من التعاليق‏:‏ الكلام فى التواضع والإحسان والكلام فى التكبر والبخل‏.‏